٣.٥ من منظار مناخ عصر ما قبل التاريخ
تستخدم دراسات مناخ عصر ما قبل التاريخ قياسات التغيّرات الماضية المستقاة من درجات حرارة السبر, والتغيّر في ترسبات المحيطات، والتغيّرات في إتساع الأنهر جليدية إضافة إلى قياسات غير مباشرة تتضمن التغيّرات في الخصائص الكيميائية والفيزيائية والإحيائية التي تعكس التغيّرات الماضية في بيئة تواجدت فيها البيانات غير المباشرة أو نمت. تعتمد هذه الدراسات على عدد من الوكلاء للتحقق من النتائج المختلفة وتحسين فهم نقاط عدم اليقين. أصبح اليوم مقبولاً ومبرراً أن عدد من المخلوقات الإحيائية (على مثال الأشجار, والمرجان والعوالق, والحيوانات) تغيّر نموها و/أو دينامياتها إستجابة للمناخ المتغيّر, وأن هذه التغيّرات بسبب المناخ سجّلت نمواً جيداً مقارنة بالمستوى السابق في الأنواع الحية والميتة (الأحافير) أو في مجموعات من المخلوقات الحية. تستخدم شبكات من عرض حلقات الشجر وكثافتها لإكتشاف التغيّرات في درجات الحرارة في الماضي بناءً على القياسات مع بيانات آلية متداخلة في الزمن. فيما تستخدم هذه المنهجيات بشكل مكثف, هناك قلق لجهة توزع القياسات, وإلى أي مدى تمثل الكرة الأرضية, ومسائل مشابهة, كمعرفة مثلاً إلى أي درجة تمتلك هذه المنهجيات تحيزات موسمية ومكانية أو تحديد الإختلاف الواضح في العلاقة مع التغيّر المناخي الحديث. {٦.٢}
ومن المرجّح جداً أن معدّل درجات الحرارة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية خلال النصف الثاني من القرن العشرين كان أكثر دفئاً من أي فترة خمسين سنة خلال السنوات الخمسمائة الماضية ومن المرجّح أن تكون الأكثر دفئاً في السنوات الألف وثلاثمائة الماضية. تغطي البيانات الداعمة لهذه الإستنتاجات مناطق اليابسة خارج المنطقة المدارية في الصيف (خاصة للفترات الزمنية الأطول, راجع الرسم ٢٠). تعتمد هذه الإستنتاجات على البيانات غير المباشرة مثل عرض حلقة شجرة وكثافتها, التركيب النظائري لعناصر عديدة في الجليد أو التركيبة الكيميائية لنطاق نمو المرجان, ما يتطلب تحليلاً لإستقاء معلومات عن درجات الحرارة ونقاط عدم اليقين المرتبطة بها. من بين نقاط عدم اليقين الأساسية, صعوبة الفصل ما بين درجة الحرارة والتهطال في بعض الحالات, وما إذا كانت تمثل موسماً معيناً بدلاً من أعوام كاملة. تحسنت البيانات وتوسعت منذ تقرير التقييم الثالث, ومن بينها على سبيل المثال قياسات في عدد أكبر من المواقع, تحليل محسّن لبيانات درجات حرارة السبر، وتحليلات موسعة للترسبات في الأنهر جليدية والمرجان. إلا أن البيانات المناخية القديمة محدودة أكثر من السجلّات الآلية منذ العام ١٨٥٠ لجهة المكان والزمان, وتستخدم المنهجيات الإحصائية لبناء معدّلات عالمية, وهي خاضعة لنقاط عدم يقين أيضاً. إن البيانات الحالية محدودة جداً فلا تسمح بإجراء تقييم مشابه لدرجات الحرارة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية قبل مرحلة البيانات الآلية. {٦.٦, ٦.٧}
تشير بعض الدراسات بعد تقرير التقييم الثالث إلى تغيّر في النصف الشمالي من الكرة الأرضية أكبر على مرّ القرون مما ذكره تقرير التقييم الثالث, بسبب البيانات غير المباشرة المستخدمة, ومنهجيات الإحصاء المحدّدة للمعالجة أو/و القياس لتمثل درجات الحرارة الماضية. يشير التغيّر الإضافي إلى ظروف أبرد خاصة من القرن الثاني عشر حتى الرابع عشر, والقرن السابع عشر والقرن التاسع عشر, ومن المرجّح أن تكون مرتبطة بالتأثيرات الطبيعية بسبب الثورات البركانية و/أو النشاط الشمسي. على سبيل المثال، تشير إعادات البناء إلى تراجع في النشاط الشمسي وتزايد في النشاط البركاني في القرن السابع عشر مقارنةً بالظروف الحالية. وتشير إعادة بناء واحدة إلى ظروف مناخية أكثر دفئاً بقليل في القرن الحادي عشر من تلك الواردة في تقرير التقييم الثالث, لكن مع أوجه عدم يقين واردة في تقرير التقييم الثالث. {٦.٦}
توفّر سجلّات ثاني أكسيد الكربون من العيّنة الجليدية خلال الألفية الماضية حدوداً إضافية حول التغيّرات الطبيعية للمناخ. تتماشى قيمة تغيّرات درجات الحرارة في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية وعلى نطاق عقدي في النصف الشمالي من الكرة الأرضية من إعادات البناء التي تعتمد على بيانات غير مباشرة (< 1°C) إلى حد بعيد مع سجلّات ثاني أكسيد الكربون من العيّنة الجليدية وفهم إستجابة المناخ ودورة الكربون. تغيّرت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بالتزامن مع تغيّر الحرارة في القطب الجنوبي خلال الـ ٦٥٠٠٠٠ سنة الماضية. وتشير البيانات المتوفّرة إلى قيام ثاني أكسيد الكربون بدور المحفّز. {٦.٤، ٦.٦}
تظهر بيانات الهولوسين تغيّرات واضحة في الأنهر جليدية، إلاّ أن هذه التغيّرات أتت كنتيجة لعمليات متعددة، إلى جانب الإرتداد الذي حصل أواخر القرن العشرين. وقد عرفت الأنهر جليدية الموجودة في مناطق جبلية عدة من القطب الشمالي إرتداداً من جراء التأثير المداري على درجات الحرارة الإقليمية منذ ١١٠٠٠ إلى ٥٠٠٠ سنة، ومنذ ٥٠٠٠ سنة وأكثر، كانت هذه الأنهر جليدية أصغر من تلك التي تكوّنت في نهاية القرن العشرين (أو حتى غائبة بالمقارنة معها). ولا يمكن أن يُعزى الإرتداد الحالي شبه العالمي للأنهر جليدية في الجبال للأسباب عينها، ذلك أن إنخفاض الإشماس الصيفي الذي شهده القطب الشمالي خلال الألفية الماضية قد يكون مؤاتٍ لتنامي الأنهر جليدية. {٦.٥}
وتظهر البيانات المتعلقة بالمناخ البدائي مدى تغيّر المناخات الإقليمية على إختلافها. وفي المناخات القديمة، اختلفت قوة ظواهر النينيو ووتيرتها. ومن الواضح أن قوة الرياح الموسمية الآسيوية وبالتالي كمية الأمطار، قد تتغيّر بسرعة. وتشير سجلّات مناخ عصر ما قبل التاريخ في شمال وشرق أفريقيا من جهة وشمالي أميركا من جهة أخرى، إلى أن فترات الجفاف التي تمتد لعقود وقرون تشكل نمطاً مناخياً يتكرر في هذه المناطق، وبالتالي فإن فترات الجفاف الحديثة ليست سابقةً في شمال أميركا وشمال أفريقيا. وتعزز مجموعة البيانات المناخية القديمة العقدية الفردية وجود تقلبية مناخية إقليمية شبه دورية، ولكن من المستبعد أن تكون هذه البوادر الإقليمية متناسقة على النطاق العالمي. {٦.٥, ٦.٦}
تشير معلومات موثوقة تستند إلى رواسب المحيط والنمذجة، إلى وجود علاقة بين التغيّرات المناخية السريعة التي حصلت في الفترة الجليدية الأخيرة والفترة الإنتقالية الجليدية – الجليدية البينية، والتغيّرات التي حصلت على مستوى دوران المحيط الأطلسي. ويشير الفهم الحالي إلى أن الدوران المحيطي قد يصبح غير مستقر ويتغيّر بسرعة عند مواجهة عتبات خطيرة. وقد أثّرت هذه الظواهر على درجات الحرارة التي وصلت إلى ١٦ درجة مئوية في غرينلاند، وأثّرت على أنماط تساقط الأمطار الإستوائية. والأرجح، هي تتعلق بإعادة توزيع الحرارة بين القطبَين الشمالي والجنوبي، وليس بالتغيّرات الكبيرة لجهة درجات الحرارة النسبية في العالم. ولم تُلحظ مثل هذه الظواهر منذ ما يقارب ٨٠٠٠ سنة. {٦.٤}
تعزز القدرة المطوّرة للنماذج الحالية لمحاكاة ظروف عصر ما قبل التاريخ، الثقة في فهم تغيّر مناخ عصر ما قبل التاريخ والتغيّرات على مستوى التأثير المداري. ويختلف الحد الأقصى للغمر الجليدي الأخير (حصلت الفترة الجليدية الأخيرة منذ ما يُقارب ٢١٠٠٠ سنة) ومنتصف الهولوسين (منذ ٦٠٠٠ سنة) عن المناخ الحالي، ليس بسبب التقلبية العشوائية، وإنما بسبب التأثير العالمي والموسمي المختلف والمتصل بفروقات معروفة على مستوى مدار الأرض (انظر الملخّص الفني، الإطار ٦). وقد عزز التأثير التفاعلي الكيميائي الأرضي الإحيائي والفيزيائي الإستجابة إلى التأثيرات المدارية. وتظهر المقارنات بين الظروف التي خضعت للمحاكاة ولإعادة التوليد في الحد الأقصى للغمر الجليدي الأخير أن النماذج تلتقط الأنماط الواسعة للتغيّرات المستنتجة في أنماط درجات الحرارة والأمطار. وبالنسبة إلى منتصف الهولوسين، إن نماذج المناخ المقرونة قادرة على محاكاة الإحترار في مناطق خطوط العرض الوسطى والرياح الموسمية القوية، مع تغيّر بسيط في درجات الحرارة النسبية في العالم (> ٠.٤ درجة مئوية)، ما يتماشى مع فهمنا للتأثير المداري. {٦.٢ ، ٦.٤، ٦.٥، ٩.٣}
كان المعدّل العالمي لإرتفاع مستوى سطح البحر يتراوح بين ٤ و٦ أمتار خلال الفترة الجليدية البينية الأخيرة، منذ ما يقارب ـ١٢٥٠٠٠ ألف سنة، أي أعلى من معدّل القرن العشرين، لا سيما بسبب إرتداد الجليد القطبي (انظر الملخّص الفني، الرسم ٢١). وتشير البيانات المرتبطة بالقلنسوة الجليدية إلى أن الثلوج غطت منطقة قمة غرينلاند في تلك الفترة، إلاّ أن بعض المناطق في جنوب غرينلاند تشهد إنخفاضاً في مد الغلاف الجليدي. كما تشير البيانات المتعلقة بالقلنسوة الجليدية إلى أن معدّل درجات الحرارة القطبية في تلك الفترة كانت أعلى بـ٣ إلى ٥ درجات مئوية بالمقارنة مع القرن العشرين، بسبب التفاوتات لجهة مدار الأرض. وعلى الأرجح، لم يساهم الغلاف الجليدي في غرينلاند وغيره من المناطق الثلجية في المحيط المتجمد الشمالي، في إرتفاع مستوى البحر بأكثر من ٤ أمتار، ما يعني أيضاً أن إمكانية مساهمة أنتاركتيكا قائمة. {٦.٤}
الإطار ٦: التأثير المداري
وتبين الحسابات الفلكية بوضوح تام أن التغيّرات الدورية في شكل مدار الأرض حول الشمس تتحكم بتوزيع إشعاعات الشمس الوافدة في أعلى الغلاف الجوي عبر الفصول وخطوط العرض (وتسمى من الآن فصاعداً الإشماس). ويمكن إحصاء التغيّرات الماضية والمستقبلية لجهة الإشماس على مدى ملايين السنين، والحصول على نتائج موثوقة إلى أعلى درجة. {٦.٤}
ويدل مصطلح الحركة المدارية على التغيرات الطارئة على تلك الفترة من السنة عندما تكون الأرض أقرب ما يمكن من الشمس، ضمن شبه فترات زمنية تتراوح بين ١٩٠٠٠ و ٢٣٠٠٠ سنة. ونتيجةً لذلك، تؤدي التغيّرات لجهة موقع الفصول ومدتها على المدار إلى تعديل توزيع الإشماس على الفصول وخطوط العرض تغييراً شديداً. وتعد التغيرات الفصلية الطارئة على الإشماس أكبر بكثير من وسطي التغيرات السنوية، وقد تصل إلى ٦٠ واط في المتر المكعب الواحد (انظر الملخّص الفني، الإطار ٦ الرسم ١).
ويتراوح ميل (إنحدار) محور الأرض بين ٢٢ درجة و٢٤.٥ درجة ضمن شبه دوريات تمتد على ما يقارب ٤١٠٠٠ سنة. وتؤدي التغيّرات التي تطرأ على ميل الأرض إلى تعديل التناقضات الفصلية، كما يتغيّر الإشماس السنوي النسبي ذو الآثار المضادة لجهة خطوط العرض المنخفضة مقابل خطوط العرض المرتفعة (وبالتالي، ما من أثرٍ على معدّل الإشماس العالمي). {٦.٤}
ويتميز الإختلاف المركزي لمدار الأرض حول الشمس بدوريات أطول تصل إلى ٤٠٠٠٠٠ سنة وتمتد على ١٠٠٠٠٠ سنة. أما التغيّرات في الإختلاف المركزي وحدها فلا تترك سوى أثر محدود على الإشماس، إذ تؤدي إلى تغيّرات بسيطة في المسافة بين الأرض والشمس. ولكن التغيّرات على مستوى الإختلاف المركزي تتفاعل مع الآثار الفصلية الناتجة عن الميل وعن الإعتدال الربيعي أو الخريفي. وخلال فترات الإختلاف المركزي المنخفض، على غرار ما حصل منذ ٤٠٠٠٠٠ سنة وما سيحصل في الـ١٠٠٠٠٠ سنة المقبلة، لا تكون التغيّرات الفصلية المتوقعة للإشماس بالحجم الذي تكون عليه خلال فترات الإختلاف المركزي الكبير. (انظر الملخّص الفني، الإطار ٦ الرسم ١). {٦.٤}
وصلت نظرية ميلانكوفيتش أو «النظرية المدارية» المتصلة بالعصور الجليدية إلى مراحل متطورة للغاية الآن. فغالباً ما تنجم العصور الجليدية عن الحدود الدُنيا للإشماس الصيفي على خط العرض المرتفع للقطب الشمالي، ما يسمح بإستمرار تساقط الثلوج على مدار السنة وبالتالي تراكم الثلوج حتى تشكل صفائح جليدية في نصف الكرة الشمالي. ويُقال أيضاً إن الفترات التي تتسم بإشماس صيفي قوي يقع على المناطق المرتفعة من خطوط العرض في نصف الكرة الشمالي، والتي تتميز في الوقت نفسه بتغيّرات مدارية واضحة، تؤدي إلى ذوبان سريع للجليد، بالإضافة إلى التغيرات المناخية وإرتفاعٍ مستوى سطح البحر. وتحدد هذه التغيّرات المدارية وتيرة التغيّرات المناخية، فيما يبدو أن عمليات التأثير التفاعلي القوي التي تضخم التغيّرات المدارية وتسمح بحدوث إجابات شاملة. وتؤثر التغيرات المدارية أيضاً على مر آلاف السنين بشكلٍ كبير على الأنظمة المناخية الأساسية مثل أهم الرياح الموسمية في الأرض ودوران المحيطات العالمي ومحتوى الغلاف الجوي من غازات الدفيئة. {٦.٤}
وتبين الدلائل المتوفرة أن نزعة التبريد الطبيعية الآيلة إلى التجلّد لن تخفف من التسخين الراهن. ويشير فهم تجاوب الأرض مع التغيّرات المدارية إلى أن كوكبنا لن يدخل من تلقاء نفسه في عصر جليدي جديد يمتد على ما لا يقل عن ٣٠٠٠٠ سنة. {٦.٤ – الأسئلة ٦.١}